إعادة تخيّل البلاستيك: معاهدة من أجل مستقبل الإنسانية – لمعالي د. عبدالله بلحيف النعيمي

بينما تصل أزمة التلوث البلاستيكي إلى مستويات غير مسبوقة، يقف العالم اليوم عند مفترق طرق حاسم. لقد حان الوقت لإقرار اتفاق عالمي مُلزم قانونًا لمكافحة التلوث البلاستيكي عبر كامل دورة حياته — من التصنيع إلى التخلص.
فالبلاستيك، هذه المعجزة التي أبدعتها الحداثة، قد نسجت نفسها في تفاصيل حياتنا اليومية. من أنابيب المستشفيات الوريدية إلى المد البلاستيكي الصامت قبالة شواطئ رأس الخيمة، يجسد هذا الابتكار وعدًا بالخدمة وخطرًا في آنٍ معًا. لكن العالم الآن يقف على أعتاب استعادة هذه الرواية.
ومع اجتماع الوفود في جنيف لوضع اللمسات الأخيرة على معاهدة البلاستيك العالمية، علينا أن نسأل أنفسنا: هل يمكننا، كمجتمع عالمي، إعادة كتابة إرث مادة أصبحت رمزًا للراحة واللا مبالاة؟
من التلوث إلى الإمكانات الدائرية
هذه المعاهدة لا تقتصر على التنظيم فقط، بل تُعد نداءً للضمير — يشمل كل مراحل حياة البلاستيك: من الاستخراج والتصنيع إلى التصميم والاستخدام، وأخيرًا، إلى ما بعد “نهاية عمره”.
إنها نقلة نوعية من اقتصاد خطي إلى نهج دائري يعيد الكرامة، حيث تُصمم المنتجات لتتجدد بدلاً من أن تتحلل. هي إصلاح اقتصادي يتجذر في الترميم البيئي، حيث لا يعتمد النمو على استنزاف الطبيعة، بل على التناغم معها.
تأمل في هذا: أكثر من 400 مليون طن من البلاستيك يتم إنتاجها عالميًا كل عام. لا يُعاد تدوير سوى 9% منها فقط. أما البقية؟ فتبقى كأثر من الجزيئات البلاستيكية الدقيقة في طعامنا، وأسماكنا، بل وفي أجسامنا. هذه ليست مجرد “نفايات” — بل عرضٌ لمرض أعمق. المرض هو الانفصال: بين المستهلك والنتائج، بين الربح والكوكب.
معاهدة للجميع – لا للنخبة فقط
ليس سرًا أن عبء التلوث البلاستيكي لا يتوزع بالتساوي. ففي حين تصدّر الدول الثرية نفاياتها، تتحمل دول أخرى هذا العبء في صمت — على سواحلها، في صحاريها، وفي مراكز إعادة التدوير غير الرسمية التي تفتقر للحماية والكرامة.
لذلك، يجب أن تُرسخ المعاهدة الاستدامة في العدالة، وذلك عبر:
- نقل التكنولوجيا إلى الدول النامية
- تمويل البنية التحتية العادلة لإدارة النفايات
- وضع معايير تصميم بيئية عالمية تُنهي التصنيع المسبق للانتهاء
- حماية العمال في القطاعات غير الرسمية ممن يعيشون وسط نفايات البلاستيك
فمن دون هذه الركائز، تصبح الاستدامة امتيازًا للبعض ووهمًا للكثيرين.
التأثيرات المترتبة على الإصلاح
إذا تم اعتماد هذه المعاهدة بصدق، فإن تأثيرها سيتجاوز التغليف. ستُعيد تشكيل استراتيجيات المناخ عبر تقليل الانبعاثات الناتجة عن إنتاج البلاستيك وحرقه. وستؤثر على تخطيط المدن، عبر أنظمة نفايات دائرية بدلًا من أنظمة نهائية.
وهي تمس كذلك ذاكرتنا الثقافية. فكما حافظت الإمارات على نظام الفلج وأبراج الهواء في التصميم الحضري، علينا أن نُعيد توجيه تراثنا نحو المستقبل — ببناء أنظمة تُقدّر الحفاظ، والمجتمع، والرعاية.
وهنا لمحة عمّا قد يبدو عليه التحوّل المنشود: على صعيد المرونة المناخية، ستسهم المعاهدة في خفض الانبعاثات عبر سلسلة إنتاج البلاستيك. أما في مجال تجديد المدن، فستُدمج الأنظمة الدائرية ضمن بنية المدن الذكية. من ناحية العدالة الاجتماعية، ستتحسن سبل العيش وتتوفر بيئة أنظف، خصوصًا للمجتمعات المتأثرة بشكل غير متكافئ. على مستوى الصحة العامة، سيقلّ التعرّض للمواد السامة والجزيئات البلاستيكية الدقيقة. وأخيرًا، من منظور الوعي الثقافي، ستُرسّخ عادات جديدة قائمة على الحفاظ والتضامن، ما يعزز علاقة الإنسان بالبيئة والمجتمع.
خاتمة للتأمل
في الإمارات، كثيرًا ما نتحدث عن “الميزان” — التوازن. فالاستدامة، في جوهرها، هي هذا التوازن: بين الاستهلاك والحفاظ، بين المكاسب السريعة والرفاه طويل الأمد.
تدعونًا معاهدة البلاستيك العالمية إلى استعادة هذا التوازن — لا من خلال الشعور بالذنب أو الأسى، بل من خلال الرؤية. فالعالم بحاجة إلى ما هو أكثر من الحلول التقنية — إنه بحاجة إلى الشعر، والتعاطف، وهندسة شجاعة لمستقبل يشمل الجميع.فلنجعل من هذه المعاهدة لا نهاية، بل مقدمة، نحو مدنٍ تتنفس، واقتصادات تتجدد، وكوكب يستعيد كرامته.
اقرأ أيضًا: كيف تقود الإمارات المستقبل الأخضر من خلال خطوات جريئة في العمل المناخي- لمعالي د.عبدالله بلحيف