فهم علم البيئة في سياقات الجنوب العالمي: 2025 حلول قوية

فهم علم البيئة في سياقات الجنوب العالمي – مقالة لمعالي الدكتور عبدالله بلحيف النعيمي

قال عالم الاجتماع الأمريكي وليام هـ. وايت: “من الصعب تصميم مساحة لا تجذب الناس. المدهش هو كيف تحقق ذلك بالفعل.”

تحمل هذه الكلمات دلالات مهمة عند الحديث عن الجنوب العالمي، الذي يضم دولًا ذات ماضٍ استعماري في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأجزاء من الشرق الأوسط، حيث أصبحت وتيرة التحضر إحدى الظواهر الأبرز في القرن الحادي والعشرين. لكن بخلاف النمو التدريجي المدفوع بالصناعة في الشمال العالمي (أوروبا وأمريكا الشمالية وأجزاء من شرق آسيا)، تعاني المدن هنا من ضعف الحوكمة، ونقص البنية التحتية، والافتقار إلى الدعم الاقتصادي.

وبالنظر إلى أن سكان المدن في الجنوب العالمي سيرتفعون بنسبة 90% بحلول عام 2050، يصبح من الضروري تحليل التحديات المتعددة الأبعاد التي تواجه هذه المدن، واستكشاف حلول مبتكرة تراعي خصوصية السياقات المحلية.

نتائج بحثية

تشير الدراسات إلى حجم وسرعة التوسع، إذ تُصنف مدن مثل دكا (بنغلاديش)، ولاجوس (نيجيريا)، ومومباي (الهند) من بين أسرع المراكز الحضرية نموًا في العالم، مع عدد سكان يتجاوز 20 مليون نسمة. كما يُتوقع أن يسجل النمو السكاني في إفريقيا جنوب الصحراء 64% بحلول 2030، مقارنة بـ32% في شرق آسيا و22% في جنوب آسيا.

اليوم، يعيش أكثر من 60% من سكان المدن في إفريقيا ضمن مستوطنات عشوائية، يفتقرون غالبًا إلى المياه النظيفة، والصرف الصحي، والسكن الآمن. وتشمل أوجه القصور الأساسية: غياب الطرق المعبدة، وشبكات الصرف الصحي، والكهرباء. ففي كينشاسا (الكونغو الديمقراطية) لا يتجاوز طول الطرق المعبدة 10%، فيما يعاني السكان من انقطاعات متكررة للكهرباء، بينما تعتمد نصف الأسر في نيروبي (كينيا) على باعة المياه غير الرسميين.

كما أصبحت الفقر الحضري وعدم المساواة تحديات كبرى في دول مثل بنغلاديش والمكسيك ونيجيريا، حيث تجاوز الفقر الحضري معدلات الفقر الريفي. وتجاور الأحياء الفقيرة أحياء غنية، مما يخلق فجوة مكانية صارخة. هذا النمو السريع يقود إلى تدهور بيئي، وإزالة الغابات، وتلوث الهواء والمياه، وفقدان التنوع البيولوجي.

تُعد مدن مثل دلهي (الهند) وجاكرتا (إندونيسيا) مثالًا صارخًا، إذ تتجاوز مستويات الجسيمات الدقيقة PM2.5 الحدود الآمنة بشكل مستمر.

عامل مقلق آخر يتمثل في هشاشة البنية التحتية للمستوطنات العشوائية التي غالبًا ما تقع في مناطق عالية المخاطر، مثل المدن الساحلية مانيلا (الفلبين)، ودكا، ولاجوس، المعرضة للفيضانات وارتفاع مستوى البحر.

ضعف الأطر التخطيطية وتجزؤ الحوكمة، إلى جانب محدودية الصلاحيات المالية، كلها عوامل تعيق تحسين الخدمات. ما يستدعي البحث عن توازن منسجم لمعالجة هذه القصور.

التخطيط التشاركي

رغم التحديات، نجحت بعض المدن في تحقيق خطوات ملهمة. فقد رائدة مدينة بورتو أليغري (البرازيل) نظام “الموازنة التشاركية”، الذي أتاح للمواطنين التأثير على الإنفاق البلدي. النموذج انتشر في مدن عدة بأمريكا اللاتينية وإفريقيا، وعزز الشفافية والاستجابة لاحتياجات السكان.

وفي كيب تاون (جنوب إفريقيا)، يتضمن “خطة التنمية المتكاملة” تحسين المستوطنات العشوائية عبر توفير خدمات أساسية مع الحفاظ على الشبكات المجتمعية. أما في بانكوك (تايلاند)، فيدعم برنامج “بان مانكونغ” تحسينات يقودها المجتمع للسكن بمساندة حكومية.

كما باتت نيروبي (كينيا) وأكرا (غانا) رائدتين في استخدام نظم المعلومات الجغرافية (GIS) وبيانات الهواتف المحمولة لرسم خرائط البنية التحتية ومراقبة المستوطنات العشوائية. فيما تبنّت بنغالور (الهند) وجاكرتا مبادرات المدن الذكية لتحسين الخدمات عبر المنصات الرقمية.

ومن خلال إدماج المواطنين في التخطيط وتطوير أنظمة النقل المستدام، تغيّرت حياة مدن بأكملها. ففي كولومبيا، أحدثت مدينة ميديلين نقلة نوعية عبر شبكة التلفريك “ميتروكابل”، التي ربطت أحياء التلال بمركز المدينة، فيما أصبح نظام “ترانس ميليـنيو” للحافلات السريعة في بوغوتا نموذجًا عالميًا للنقل الحضري الكفؤ والمنخفض التكلفة.

وفي الهند، برزت مدن مثل إندور وسورات كمراكز ابتكار ذات مؤشرات معيشية أفضل من المدن الكبرى، وحصدت إشادة بفضل ممارساتها الخضراء.

الطبيعة والعدالة

تفرض التحديات البيئية والمناخية المعقدة حلولًا تقوم على مقاربة “الطبيعة والعدالة”. ويتطلب ذلك التركيز على إعادة التشجير، والزراعة البيئية، وإنشاء ممرات للتنوع البيولوجي، مع الاعتراف بالدور المهم للمعرفة المحلية والقيم الثقافية في تعزيز المرونة البيئية.

المقاربة العادلة للطبيعة تهدف أيضًا إلى تصحيح اختلالات تاريخية من خلال إشراك المجتمعات المحلية والاستماع إلى أصوات الفئات المهمشة.

أمثلة بارزة تشمل تايبيه (تايوان) التي طبقت الأرصفة النافذة وزراعة الأشجار وأنظمة الطاقة الشمسية لمواجهة الحر والفيضانات. أما كامبالا (أوغندا) فتستثمر في استعادة الأراضي الرطبة لإدارة مياه الأمطار وتعزيز التنوع البيولوجي.

السياسات الداعمة

تكشف التحديات العالمية والأمثلة المحلية الحاجة العاجلة إلى تمكين الحكومات المحلية ماليًا، حتى تضع خططًا طويلة الأمد تدمج بين الإسكان والنقل والأهداف البيئية.

كما أن توفير فرص العمل والتعليم والرعاية الصحية للفئات المهمشة يجب أن يكون في صميم السياسات الحضرية. أما في المناطق الساحلية المعرضة للمخاطر، فيجب دمج استراتيجيات التكيف المناخي في خطط التنمية.

وفي ظل صعوبة مواجهة هذه التحديات منفردة، تصبح الشراكات الدولية ضرورية لدعم بناء القدرات ونقل التكنولوجيا وتمويل التوسع المستدام.

إن التحضر في الجنوب العالمي ليس مجرد اتجاه ديمغرافي، بل تحوّل عميق في الفضاء والمجتمع. فالمدن هنا ليست مجرد محركات للنشاط الاقتصادي، بل أنظمة حية حيث تتقاطع العدالة بالاستدامة والثقافة.

وبصيغة شاعرية، يمكن القول إن المدن لا يجب أن تُبنى فقط من الخرسانة والصلب، بل من أحلام الناس وتطلعاتهم. وفي الجنوب العالمي، هذه التطلعات تنمو بسرعة، وتظل متجذرة في سياق تاريخي عريق.

اقرأ أيضًا: التنقل المستدام: بناء مدن أكثر مراعاة للبيئة من أجل مستقبل خالٍ من التلوث

6 Views
Scroll to top
Close
Browse Categories
Browse Tags