ديناميات مجتمعية إماراتية لترسيخ التسامح الديني
Authors: Belkacem El Jattari
Conference: International Dialogue Of Civilization And Tolerance Conference – Abu Dhabi 2024
Keywords: التسامح، التعايش ، الامارات، المجتماعات . الثقافة
Abstract
يثير موضوع التسامح الديني جملة حساسيات تمس الأطياف المجتمعية برمتها، تجعل من مقاربته عملا محفوفا بقدر من الشروط والمحاذير التلفظية، وبحثا محاطا بعدد من القيود الثقافية، علاوة على ما يستوجبه من الأهلية المعرفية لدى الباحثين، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمتابعات تواكب تجارب مجتمعية بعينها تجر خلفها إرثا صداميا تليدا، أو مشاريع ذات طابع تنويري تدعو إلى تجاوز العداءات الدينية والمذهبية ذات الجذور التاريخية الضاربة في القدم. ولعل مردَّ هذه المحاذير والقيود إلى قيام الجماعات بتناقل إرث الصراعات الدينية والمذهبية، وميل عاليتها، من المتعلمين، إلى مجاراة المتخيل الجماهيري، والوجدان الجمعي، واستنكاف غالبيتها الخوضَ في البواعث العميقة التي تقف وراء كثير من الخلافات الدينية، وميلها عن إعمال النظر العقلي في حجم الخسارة الإنسانية الناشئة عنها، وترددها في القيام بمهمتها التوعوية تجاه الفئات ذات التكوين المعرفي الضعيف والمتوسط، والتي يشكل بعضها أدوات تنفيذية تكرس سلوكاتها طرق الجفاء والاستعداء تجاه الآخر المختلف؛ دينيا ومذهبيا. وقد ساهم خفوت الحماسة لدى حملة الأقلام والمتحدثين بلسان المعرفة وباسم العلوم الدينية المختلفة، طيلة حقب طويلة، في تجذير مناخ الارتياب لدى معتنقي الأديان والمذاهب، بعضهم تجاه بعض، وتكريس الاعتقاد بقاعدة المؤامرة التاريخية، مما زاد في تأجيج الصراعات والحروب الدينية والطائفية، وتقليد ذمم المولودين دَيْنَ تأدية الثارات التاريخية لأسلافهم. ولأن الثأر يقتضي ثأرا مضادا، ويقتضي هذا الأخير ثأرا آخر، وهكذا دواليك؛ فإن مجاراة مسلسل الصراع يعني استحالة الخروج من هذه الدوامة، مع ما يكبده ذلك للشعوب من خسائر حضارية ترخي بظلالها على سبل حياتها المختلفة، وما يثيره من خسائر تمس البيئة الإنسانية في شموليتها، علاوة عما يفرضه من الكوابح الحضارية أمام البشرية جمعاء، في ظل ما صار يتهددها من الأخطار العديدة التي استوجبها تقدمها التقني خلال هذا العصر. وأمام وضع كهذا، كان لا بد من قيام صوت مؤسسي حازم، يسعى إلى كبح جماح دوامة الاستعداء الديني، ويصُمُّ السمع عن صوت الأحقاد المتوارثة، وينشئ بدلا عنه صوتا صداحا للتسامح، ونبذ الخلاف، وإشاعة لغة الحوار والتعايش، ويفتح صفحة جديدة في كتاب الحياة الدينية للشعوب، شريطة أن يكون صوتا مسموعا ذا مصداقية وقدرة على النفاذ إلى مختلف الأوساط المجتمعية؛ إقليمية ودولية. وقد كان طبيعيا ومتوقعا أن تتولى دولة الإمارات العربية المتحدة، وقد حازت هذه الشروط وأكثر، تحقيق هذه المهمة الأخلاقية النبيلة، وأن تبصم تاريخ الإنسانية بجعلها موضوع التسامح الديني ورشا مجتمعيا مركزيا، تزوده بالعدة المؤسسية المتكاملة، وتوفر له الأرضية الضرورية لإشاعة القيمة لدى كافة الفئات المجتمعية، مثلما كان طبيعيا أن ينجح المشروع في بلوغ غاياته النبيلة، بسبب ما توفر فيه من الشروط الأخلاقية والتدبيرية، ونتيجة وقوعه على أثر وعي جمعي متقدم تم تشكيله طيلة عقود، على أساسٍ من الاستقرار الاجتماعي، المشفوع بالعدل والرفاه والتنوير. تكمن أهمية هذا البحث في سعيه إلى تتبع التجربة الإماراتية الرائدة في تدبير شؤونها الدينية والثقافية والقيمية، بحثا عن الحيثيات الثقافية التي ساهمت في إنجاح رهان إشاعة قيمة التسامح الديني، وإبرازا لعمق الاشتغال الثقافي الذي بوشر منذ فترة، في إطار حس رفيع من المسؤولية تجاه المصالح العليا للوطن والأمة، ونزوع قيادي طبيعي تجاه دول العالم المختلفة، بالنظر إلى ما أضحت تمثله دولة الإمارات العربية من قوة إقليمية ودولية في مجالات الاقتصاد والعلوم والفنون وغيرها من الإنتاجات الحضارية. أما إشكاليته المركزية فتكمن في البحث عن أوجه الريادة الإماراتية في مجال تدبير شأنها الثقافي المتصل بالقيم، وتحديدا مضمار التسامح الديني؛ وذلك باتباع مسلك التأمل في عدد من الديناميات الثقافية التي بصمت عليها هيئات هذا البلد خلال العقد الأخير. كما يناقش، في الآن نفسه، دينامية الاستباق والعمل القاعدي في التجربة الإماراتية، والتي تكشف عن وجود رعاية بعيدة لصناعة قيم التسامح والتعايش وغيرها من القيم الإيجابية، الواقعة على أثر روح المشروع الوحدوي الفريد الذي بصمت عليه هذه الدولة. هذا، ويقدم البحث أمثلة ملموسة لآليات زرع بذور التسامح في مشاتل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، كما يستعرض لُمعاً في التدبير الثقافي المؤسسي الحكيم، عبارة عن تدابير إجرائية تهم الدفع بقيمة التسامح الديني إلى أقصى تحققاتها الممكنة، في ظل إكراهات السياق الإقليمي والعالمي الراهن. ثم يعالج وجها آخر من أوجه الديناميات الثقافية، هو دينامية التجاوز؛ باعتبار أنشطتها أدوات لتطويع الممانعات الثقافية التي ظلت ترفض الحوار الديني، جزءا أو كلا، ولعلاج تضخم الذاكرة، بوصفه عطبا جماعيا يحول دون تجاوز سرديات الماضي المكبلة لكل مبادرات التسامح. واعتبارا لطبيعة الموضوع التركيبية فقد رأينا بوجوب اعتماد مقاربة متعددة التخصصات، وإن غلبت عليها المقولات المنهجية التي أنشأتها الدراسات الجارية في حقل سوسيولوجيا الثقافة، الذي ينفتح بطبيعته على فضاءات استدلالية رحبة تميز علوما ومعارف تقع في حدود التماس.